الهند... النمو الاقتصادي أم حماية البيئة؟
في الوقت الذي يحقق الاقتصاد الهندي نمواً مطرداً يتراوح حسب التقديرات بين 8 و9 في المئة سنوياً، يحتدم نقاش محموم في أوساط المهتمين والمتابعين للشؤون الهندية عما إذا كان هذا النمو المتسارع للاقتصاد الهندي بالوتيرة الحالية والمتوقع أن تتصاعد في السنوات المقبلة، ستأتي على حساب الانشغالات البيئية ذات الأهمية البالغة في عالم اليوم.
وتزداد مخاوف المنظمات المدافعة عن البيئة في الهند وخارجها بالنظر إلى المشروعات الطموحة التي تعتزم الحكومة الهندية إنجازها خلال المرحلة المقبلة، والمتعلقة أساساً بتطوير البنية التحتية والاستثمار في إعادة تأهيلها، والتي من المرتقب أن تكلف ما لا يقل عن تريليون روبية هندية، هذا بالإضافة إلى بناء القطاع الصناعي وفسح المجال أمام توسع السكان الذين وصل عددهم اليوم إلى 2.1 مليار نسمة من خلال إعداد السكن المناسب.
ومن المرجح أن تتعرض الموارد الطبيعية للهند من غابات ومصادر المياه إلى ضغط كبير يفرضه واقع النمو الاقتصادي ما يستدعي إدارة جيدة للموارد من جهة، وعدم تغليب النمو على حساب البيئة من جهة أخرى، فالتركيز سيكون في السنوات المقبلة على التنمية المستدامة التي تلبي حاجات الاقتصاد والسكان، وفي الوقت نفسه تحافظ على الموارد الأساسية وتحمي البيئة من التخريب والدمار.
والسؤال المطروح حالياً في الهند التي مازال عدد كبير من سكانها يرزح تحت خط الفقر هو: إلى أي مدى يمكن تبرير النمو الاقتصادي إذا كان سيكلف بعضاً من التنوع البيئي الذي تفخر به الهند؟
والحقيقة أن هذا النقاش، الذي يضع النمو مقابل البيئة تصاعدت حدته في السنوات الأخيرة ليس فقط في الهند، بل في العالم أجمع. لكن في الهند يكتسي النقاش بعداً آخر بسبب الرجل الذي يقف وراء حماية البيئة، ويستميت في التصدي للمشروعات التي يراها مضرة بها، هذا الرجل ليس سوى وزير البيئة في الحكومة الهندية، "جيا رام راميش"، الذي أقدم بنفسه على التشكيك في سلامة العديد من المشروعات المهمة على أساس عدم احترامها للقواعد البيئية الصارمة التي تضعها وزارته وتُلزم المستثمرين التقيد بها.
فقد سعى بكل جهد إلى تذكير زملائه في الحكومة بأن الحفاظ على البيئة وترشيد استخدام الموارد الطبيعية، لا يقل في أهميته عن تحقيق معدلات نمو جيدة تضمن الازدهار والرخاء لفئات واسعة من المجتمع المتطلعة إلى تحسين وضعيتها، بل أكد في أكثر من مناسبة أنه ليس بالضروري أن يأتي النمو على حساب البيئة، لكن موقفه الصارم جعله في بعض الأحيان على طرف النقيض مع زملاء له في الحكومة سعوا إلى الترخيص لمشروعات اقتصادية دون جدوى. ولعل آخر هذه الأمثلة المواجهة بين وزير البيئة ونظيره وزير الفحم "سيري براكاش جاياسول"، الذي تقدم بطلب لدى وزارة البيئة للحصول على ترخيص بحفر 203 مناجم للفحم لتوليد الطاقة، وهو طلب رفضه "راميش"، معتبراً أنه سيلحق ضرراً فادحاً بالغابات المنتشرة في المنطقة التي ستحفر فيها المناجم، ولم تنفع تطمينات وزير الفحم من أنه سيعمل على إعادة غرس الأشجار التي اقتلعت ما أن يستكمل المشروع في إقناع "راميش" بالترخيص لحفر المناجم. هذا بالإضافة إلى مشروعات أخرى رفض وزير البيئة منح موافقته عليها لما تمثله من ضرر جسيم على البيئة، ومن بينها مشروع شركة "بوسكو" في ولاية "أوريسا" الشرقية بتكلفة 12 مليار دولار، والذي يعد أكبر استثمار خارجي مباشر في الهند، فلإنشاء المشروع تطالب شركة "بوسكو" الكورية الجنوبية المتخصصة في إنتاج الصلب مساحة من الأرض تقدر بحوالي 4004 هكتار 2900 منها جاء من منطقة غابات.
ومع أن لجنة تم تشكيلها للبت في المشروع أعطت الضوء الأخطر لشركة "بوسكو" للمضي قدماً في إنجاز مشروعها، أصر "راميش" على رفضه وتمسك بموقفه المتحفظ، وعلى الرغم من أن الموقف النهائي للحكومة الهندية مازال قيد الدراسة، لا يبدو أن وزير البيئة مستعد للتراجع عن موقفه.
ولحد الآن، لم يتورع "راميش" عن إلغاء أي مشروع اقتصادي يراه غير منسجم مع قواعد الحفاظ على البيئة، فقد سبق أن أوقف مد طريق سريعة كانت ستمر عبر محمية للنمور، كما رفض الترخيص لبناء سد في منطقة جبلية بالهيمالايا لأنه سيؤثر على النظام البيئي في المنطقة، وتصدى أيضاً لمشروع بناء سفينة كبيرة في المنطقة الغربية للهند، لأنها تنتهك قوانين حماية البيئة، بل طالب من الشركة المسؤولة عن المشروع بإلغائه تماماً، أو التفكير في مكان آخر لإقامة السفينة العائمة بعيداً عن الشعب المرجانية المهددة على السواحل الهندية. وفي السياق نفسه، طالب "راميش" من شركة "جيندال ستيل" العملاقة، الدفاع عن الترخيص الذي حصلت عليه من الحكومة وتبرير استثمارها الذي يقدر بحوالي ستة مليارات دولار في المنطقة الشرقية للهند، وبالطبع من خلال تبني "راميش".
لكن هذه المواقف المعارضة للمشروعات التي يرى أنها مضرة بالبيئة أثارت استياء أصحاب تلك المشاريع ودفعتهم إلى تحريك نفوذهم في الحكومة للتصدي لقوانينه الصارمة. فقبل تولي "راميش" وزارة البيئة، كان من السهل الحصول على التراخيص اللازمة والموافقات المطلوبة لبدء مشروع ما، ولم تكن الوزارة تمثل أي عقبة في وجهة الاستثمارات الكبرى حتى تلك التي تضرب بعرض الحائط التوازن البيئي الضروري للحفاظ على نظام حيوي متنوع، يجنب البلاد ويلات التغيرات المناخية، التي باتت أثارها ملحوظة على نطاق واسع.
وعلى غرار النقاشات المحتدمة، لم يتمكن "راميش" في بعض الأحيان من الدفع بوجهة نظره أو إثبات صحتها، لا سيما فيما يتعلق بمشروع بناء مطار جديد في نيودلهي أعطت الوزارة الموافقة عليهم فقط ليتبين لاحقاً أنه يعاني من اختلالات حقيقية تطال المواصفات البيئة التي أقيم عليها المشروع.
غير أن ما يشجع "راميش" على الثبات في مواقفه، هو مساندة رئيس الحكومة، مانموهان سينج، له في جميع المعارك التي خاضها، هذه المساندة النابعة من إدراك لدى أعلى هرم في الحكومة لضرورة الحفاظ على الثراء الطبيعي للهند، وعدم التضحية به لتحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي يشهدها العالم والآثار المدمرة للاحتباس الحراري في أكثر من منطقة.
د.ذِكْرُ الرحمن
رئيس مركز الدراسات الإسلامية- نيودلهي